فصل: قال السمرقندي في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} أي نزه اسَمُه عزَّ وجلَّ عن الإلحادِ فيه بالتأويلاتِ الزائغةِ وعن إطلاقِه على غيرِه بوجهٍ يُشعرُ بتشاركِهما فيهِ وعن ذكرِه لاَ على وجهِ الإعظامِ والإجلالِ. و{الأعلى}: إمَّا صفةُ للربِّ وهو الأظهرُ أو للاسمِ. وقرئ {سُبحانَ ربِّيَ الأعلى}. وفي الحديث لما نزلتْ {فسبح باسمِ ربِّكَ العظيمِ}، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ «اجعلُوها في ركوعِكم»، فلما نزلَ {سبحِ اسمَ ربِّك الأعلى}، قال: «اجعلُوها في سُجودِكم». وكانُوا يقولونَ في الركوعِ اللهمَّ لكَ ركعتُ، وفي السجودِ اللَّهم لكَ سجدتُ.
{الذى خلق فسوى} صفةٌ أُخرى للربِّ على الوجهِ الأولِ، ومنصوبٌ على المدحِ، على الثَّانِي لئلا يلزمَ الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بصفةِ غيرِه، أيْ خلق كلَّ شيءٍ فسوى خلقَهُ، بأنْ جعلَ له ما به يتأتَّى كمالُه ويتسنَّى معاشُه، وقوله تعالى: {والذى قدر} إمَّا صفةٌ أُخْرى للربِّ كالموصول الأولِ، أو معطوف عليهِ وكذا حالُ ما بعدَهُ. قدر أجناسَ الأشياءِ وأنواعِها وأفرادَها ومقاديرَها وصفاتِها وأفعالَها وآجالَها {فهدى} أيْ فوجَّه كلَّ واحد منَها إلى ما يصدرُ عنْهُ وينبغِي لهُ طبعاً أو اختياراً، ويسرهُ لما خلق له بخلق الميولِ والإلهاماتِ ونصب الدلائلِ وإنزالِ الآياتِ ولو تتبعتَ أحوالَ النباتاتِ والحيواناتِ لرأيتَ في كلَ منَها ما تحارُ فيه العقول.
يُروى أنَّ الأفعَى إذَا بلغتْ ألفَ سنةٍ عميتْ وقدْ ألهمَها الله تعالى أنْ تمسحَ عينها بورقِ الرازيانجِ الغضِّ، يُردُّ إليها بصرُها، فربَّما كانتْ عندَ عُروضِ العَمَى لها في بريةٍ بينَها وبين الريفِ مسافةٌ طويلةٌ فتطويها حتى تهجمَ في بعضِ البساتينِ على شجرة الرازيانجِ لا تُخطئها فتحكَّ عينها بورَقِها، وترجعَ باصرةً بإذنِ الله عزَّ وجلَّ.
ويُروى أنَّ التمساحَ لا يكونُ له دُبرٌ وإنَّما يخرجُ فضلاتِ ما يأكلُه من فمِه حيثُ قيَّضَ الله له طائراً قدر غذاؤُه من ذلكَ، فإذَا رآهُ التمساحُ يفتحُ فمَهَ فيدخُلُه الطائرُ فيأكلُ ما فيهِ، وقد خلق الله تعالى له من فوقِ منقارِه ومن تحتِه قرنينِ لئلا يطبق عليه التمساحُ فمَهُ. هَذا وأمَّا فنونُ هداياتِه سبحانه وتعالى للإنسانِ من حيثُ الجسميةُ ومن حيثُ الحيوآنية لاسيما من حيثُ الإنسانية فممَّا لا يحيطُ به فلكُ العبارةِ والتحريرُ ولا يعلمُه إلا العليمُ الخبيرُ.
{والذى أَخْرَجَ المرعى} أيْ أنبتَ ما يرعاهُ الدوابُّ غضّاً طرياً يرفُ {فَجَعَلَهُ} بعدَ ذلكَ {غُثَاء أحوى} أي دَريناً أسودَ وقيلَ: {أحوى} حالٌ من {المرعى}، أي أخرجَهُ أحوى من شدة الخضرةِ والريِّ فجعلَه غُثاءً بعدَ ذلكَ.
وقوله تعالى: {سنقرئك فَلاَ تنسى} بيانٌ لهداية الله تعالى الخاصَّةِ برسولِ الله صلى الله عليه وسلم إثرَ بيانِ هدايتِه تعالى العامَّةِ لكافَّةِ مخلوقاتِه وهي هدايتُه عليه الصلاةُ والسلامُ لتلقِّي الوَحْي وحفظِ القرآن الذي هو هُدى للعالمينَ وتوفيقُه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لهدايةِ الناسِ أجمعين. والسين إمَّا للتأكيدِ وإمَّا لأنَّ المرادَ إقراء ما أَوْحى الله إليهِ حينئذٍ وما سيُوحى إليهِ بعدَ ذلكَ فهو وعدٌ كريمٌ باسمترارِ الوَحْي في ضمنِ الوعدِ بالإقراء أي سنقرئك ما نُوحِي إليكَ الآنَ وفيما بعدُ على لسانِ جبريلَ عليه السلام أو سنجعلكَ قارئاً بإلهامِ القراءة فلا تنسى أصلاً من قوةِ الحفظِ والإتقانِ مع أنَّكَ أميٌّ لا تدرِي ما الكتاب وما القراءة ليكونَ ذاكَ آيةً أُخْرى لكَ معَ ما في تضاعيفِ ما تقرؤه من الآياتِ البيناتِ من حيثُ الإعجازُ ومن حيثُ الإخبارُ بالمغيباتِ، وقيلَ {فلا تنسى} نهيٌ والألفُ لمراعاة الفاصلةِ كما في قوله تعالى: {فأضلُّونَا السبيلاَ} وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَاء الله} استثناءٌ مفرعٌ منْ أعمِّ المفاعيلِ، أيْ لا تنسى ممَّا تقرؤُه شيئاً من الأشياءِ إلا ما شاءَ الله أنْ تنساهُ أبداً بأنْ نُسخَ تلاوتُه، والالتفاتُ إلى الاسم الجليلِ لتربيةِ المهابةِ والإيذانِ بدورانِ المشيئةِ على عُنوانِ الأُلوهيةِ المستتبعةِ لسائرِ الصفاتِ، وقيل: المرادُ به النسيانُ في الجملة على القلةِ والندرةِ كما رُويَ أنه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أسقطَ آيةً في قراءته في الصلاةِ حسبَ أبيُّ أنها نُسختْ فسألَه فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ «نسيتُها».
وقيلَ: نَفيُ النسيانِ رأساً فإنَّ القَّلةَ قد تُستعملُ في النَّفي فالمرادُ بالنسيانِ حيئذٍ النيسانُ بالكليةِ إذُ هو المنفيُّ رأساً لا ما قَدْ يُنسى ثم يُدكرُ.
{إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} تعليلٌ لما قبلَهُ أيْ ما ظهرَ وما بطنَ من الأمورِ التي من جُملتِها ما أُوحيَ إليكَ فيُنْسِي ما يشاءُ إنساءَهُ ويُبقي محفوظاً ما يشاءُ إبقاءَهُ لما نيطَ بكلَ منهُما من مصالحِ دينِكم.
{وَنُيسركَ لليسرى} عطف على نُقرئكَ كما ينبئ عنه الالتفاتُ إلى الحكايةِ وما بينهما اعتراضٌ واردُ لما ذُكرَ من التعليلِ وتعليقٌ التيسيرِ به عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مع أنَّ الشائعَ تعليقُه بالأمورِ المسخرةِ للفاعلِ كما في قوله تعالى: {وَيسر لِى أَمْرِى} للإيذانِ بقوةِ تمكينِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ من اليسرى والتصرفِ فيها بحيثُ صارَ ذلكَ ملكةً راسخةً له كأنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ جُبلَ عليها كما في قوله عليه الصَّلاةُ والسلام: «اعملُوا فكُلٌّ ميسر لما خلق له». أي نوفقكَ توفيقاً مستمراً للطريقةِ اليسرى في كُلِّ بابٍ من أبوابِ الدينِ علما وتعليماً واهتداءً وهدايةً فيندرجُ فيه تيسيرُ طريقِ تلقِّي الوَحْي والإحاطةِ بما فيه منْ أحكامِ الشريعةِ السمحةِ والنواميسِ الإلهيةِ مما يتعلقُ بتكميل نفسِه عليه الصلاةُ والسَّلامُ وتكميلِ غيرِه، كما تفصحُ عنه الفاءُ في قوله تعالى: {فذكر إِن نَّفَعَتِ الذكرى} أي فذكر الناسَ حسبما يسرناكَ لهُ بما يُوحى إليكَ واهدِهِم إلى ما في تضاعيفِه من الأحكامِ الشرعيةِ كما كنتَ تفعلُه لا بعدَ ما استتبَ لك الأمرُ كما قيلَ. وتقييدُ التذكيرِ ينفعِ الذكرى لما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم طالما كانَ يذكرهُم ويستفرغُ فيه غايةَ المجهودِ ويتجاوزُ في الجدِّ كلَّ حدِّ معهودٍ حرصاً على إيمانِهم وما كانَ يزيدُ ذلكَ بعضُهم إلا كُفراً وعناداً فأُمرَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بأنْ يخصَّ التذكيرَ بموادِّ النفعِ في الجملة بأنْ يكونَ مَنْ يذكرهُ كلا أو بعضاً مِمَّنْ يُرجى منه التذكرُ ولا يتعبُ نفسَه في تذكيرِ مَن لا يورثُهُ التذكيرُ إلا عتواً ونفوراً من المطبوعِ على قلوبِهم كما في قوله تعالى: {فذكر بالقرءان مَن يَخَافُ وَعِيدِ} وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا} وقيلَ: هُو ذمٌّ للمذكرينَ وإخبارٌ عن حالِهم واستبعاد لتأثيرِ التذكيرِ فيهم وتسجيلٌ عليهمْ بالطبعِ على قلوبِهم كقولكَ لواعظِ عظِ المكَّاسينَ إنْ سمعُوا منك قصداً إلى أنَّه مما لا يكونُ والأولُ أنسبُ لقوله تعالى: {سَيذكر مَن يخشى} أي سيتذكرُ بتذكيرِكَ مَنْ مِنْ شأنِه أنْ يخشى الله تعالى حقَّ خشيتِه أو مَنْ يخشى الله تعالى في الجملة فيزدادُ ذلكَ بالتذكيرِ فيتفكرُ في أمرِ مَا تذكرَ به فيقفُ على حقيتِه فيؤمنُ بهِ، وقيلَ: إنْ بمَعْنى إذْ كمَا في قوله تعالى: {وَأَنتُمُ الاْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي إذْ كنتُم وقيلَ هيَ بمَعْنى مَا أيُ فذكر ما نفعتِ الذكرى فإنَّها لا تخلُو عن نفعٍ بكلِّ حالٍ، وقيلَ: هناكَ محذوفٌ، والتقديرُ إنْ نفعتِ الذكرى وإنْ لم تنفعْ كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} قالهُ الفَّراءُ والنَّحاسُ والجُرجُانيُّ والزهراويُّ.
{وَيَتَجَنَّبُهَا} أي الذكرى {الأشقى} من الكفرة لتوغله في عداوة النبيِّ صلى الله عليه وسلم وقيلَ: نزلتْ في الوليدِ بنِ المغيرةِ وعتبةَ بنِ أبي ربيعةَ.
{الذى يَصْلَى النار الكبرى} أي الطبقةَ السُّفلَى من طبقاتِ النارِ، وقيلَ: {الكبرى} نارُ جهنمَ والصُّغْرى نارُ الدنيا لقوله عليه الصَّلاةُ والسلام: «نارُكُم هذهِ جزءٌ من سبعين جُزْءاً من نارِ جهنَم» {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا} حتى يستريحَ {ولا يحيى} حياةً تنفعُه وثمَّ للتراخِي في مراتبِ الشدةِ لأن الترددَ بين الموتَ والحياةِ أفظعُ من الصَّلْي.
{قَدْ أَفْلَحَ} أي نجَا من المكروهِ وظفرَ بما يرجُوه {مَن تزكى} أيْ تطهرَ من الكفرِ والمعاصِي بتذكرِه واتعاظِه بالذكرى أو تكثر من التَّقوى والخشيةِ مْنَ الزكاءِ وهو النماءُ وقيلَ {تزكى} تفعَّل من الزكاةِ. وكلمةُ قَدْ لما أنَّ عندَ الإخبارِ بسوءِ حالِ المتجنبِ عنِ الذكرى في الآخرةِ يتوقعُ السامعُ الأخبارَ بحسنِ حالِ المتذكرِ فيَها وينتظرُه {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} بقلبِه ولسانِه {فصلى} أقامَ الصلواتِ كقوله تعالى: {إِنَّنِى أَنَا الله} أو كبرَ تكبيرةَ الافتتاحِ {فصلى}، وقيلَ {تزكى} أي تصدقَ صدقة الفطرِ وذكر اسمَ ربِّه أي كبَّرهُ يوم العيدِ {فصلى} أيْ صلاتَهُ.
{بَلْ تؤثرون الحياة الدنيا} إضرابٌ عن مقدر ينساقُ إليهِ الكلامُ كأنَّه قيلَ إثرَ بيانِ ما يؤدِّي إلى الفلاحِ: لا تفعلونَ ذلكَ بلْ تؤثرون اللذاتِ العاجلةَ الفآنية فتسعَونَ لتحصيلِها، والخطابُ إمَّا للكفرةِ فالمرادُ بإيثارِ الحياةِ الدنيا هُو الرِّضا والاطمئنانُ بهَا والإعراضُ عن الآخرةِ بالكليةِ كما في قوله تعالى: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا} الآيةَ، أو للكُلِّ فالمرادُ بإيثارها ما هُو أعمُّ ممَّا ذُكرَ وما لا يخلُو عنْهُ الإنسانُ غالباً من ترجيح جانبِ الدنيا علي الآخرة في السَّعي، وترتيب المبادِي. والالتفاتُ على الأولِ لتشديدِ التوبيخِ وعلى الثَّانِي كذلكَ في حقِّ الكفرةِ وتشديدِ العتابِ في حقِّ المسلمينَ. وقرئ {يُؤثرونَ} بالياءِ. وقوله تعالى: {والأخرة خَيْرٌ وأبقى} حالٌ من فاعلِ {تؤثرون} مؤكدةٌ للتوبيخِ والعتابِ أي تؤثرونها على الآخرةِ والحالُ أنَّ الآخرةَ خيرٌ في نفسِها لما أنَّ نعيمَها مع كونِه في غايةِ ما يكونُ من اللذةِ خالصٌ عن شائبةِ الغائلةِ أبديٌّ لا انصرامَ لَه. وعدمُ التعرضِ لبيانِ تكدرِ نعيمِ الدنيا بالمنغصاتِ وانقطاعِه عمَّا قليلٍ لغايةِ ظهورِه.
{إِنَّ هَذَا} إشارةٌ إلى ما ذُكِرَ من قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} وقيلَ: إلى ما في السورةِ جميعاً {لَفِى الصحف الأولى} أي ثابتٌ فيها معناهُ {صُحُفِ إبراهيم وموسى} بدل من {الصحف الأولى} وفي إبهامِها ووصفِها بالقدمِ ثم بيانِها وتفسيرِها من تفخيمِ شأنِها ما لا يخفى.
روي أن جميعَ ما أنزلَ الله عزَّ وجلَّ من كتاب مائةٌ وأربعةُ كتبٍ، أنزلَ على آدمَ عليه السلام عشر صحفٍ وعلى شيثٍ خمسينَ صحيفةً وعلى إدريسَ ثلاثينَ صحيفةً وعلى إبراهيم عشر صحائفَ عليهم السَّلامُ والتوراةَ والإنجيلُ والزبورُ والفرقانَ. اهـ.

.قال السمرقندي في الآيات السابقة:

قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى}
قال الكلبي: يعني صلِّ بأمر ربك، ويقال سبح هو من التنزيه والبراءة يعني نَزِّه ربك، والاسم صلة، ويقال: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} يعني: قل سبحان ربي الأعلى كما روي في الخبر أنه قيل: يا رسول الله ما نقول في ركوعنا فنزل {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} بمعنى العالي كقوله أكبر بمعنى الكبير والعلو هو القهر والغلبة يعني أمره نافذ على خلقه فلما نزل {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اجْعَلُوها فِي رِكُوعِكُم» فقالوا: فما نقول في سجودنا؟ فنزل {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الأعلى} قال عليه السلام: «اجْعَلُوها فِي سِجُودِكُم» ويقال: {سبح اسم ربك} يعني: اذكر توحيد ربك الأعلى، ويقال كان بدء قوله: (سبحان ربي الأعلى) أي ميكائيل خطر على باله عظمة الرب جلا وعلا سلطانه فقال: يا رب أعطني قوة حتى أنظر إلى عظمتك، وسلطانك، فأعطاه قوة أهل السموات فطار خمسة آلاف سنة فنظر فإذا الحجاب على حاله واحترق جناحه من نور العرش ثم سأل القوة فأعطاه القوة ضعف ذلك فجعل يطير ويرتفع عشرة آلاف سنة حتى احترق جناحه وصار في آخره كالفرخ ورأى الحجاب والعرش على حاله فخر ساجدًّا وقال: (سبحان ربي الأعلى) يعني: تعالى من أن يكون محسوساً معقولاً ثم سأل ربه أن يعيده إلى مكانه إلى حاله الأولى ثم قال عز وجل: {الذى خلق فسوى} يعني: الذي خلق كل ذي روح، وجميع خلقه، ويقال: سبح الله تعالى الذي خلقك فسوى خلقك يعني: اليدين والرجلين والعينين ولم يخلقك زمناً ولا مكفوفاً، كما قال: {وصوَّركم فأحسن صوركم} قوله تعالى: {والذى قدر فهدى} يعني: قدر لكل شيء شكله، يعني لكل ذكر وأنثى من شكله وهداه للأكل والشرب والجماع، ويقال: {الذي قدر فهدى} يعني فهداه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً ويقال: {الذي قدر فهدى} سبح لله الذي خلقك وقدر آجالك وأرزاقك وأعمالك وهداك إلى المعرفة والإسلام والأكل والشرب فصلّ بابن آدم وسبح لهذا المنعم المكرم السيد الذي هو الأحد الصمد، {هُوَ الأول والاخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شيء عَلِيمٌ} [الحديد: 3] ثم قال عز وجل: {والذى أَخْرَجَ المرعى} يعني: أنبت الكلأ ويقال هو العشب والحشيش وألقت وما أشبه، قرأ الكسائي: {والذى قدر} بالتخفيف، والباقون بالتشديد ومعناها واحد يقال: قدره الأمر وقدرته قوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاء أحوى} يعني: جعل المرعى يابساً بعد خضرته، وقال القتبي: غثاء يعني يابساً، {أحوى} يعني أسود من قدمه واحتراقه.
ثم قال عز وجل: {سنقرئك فَلاَ تنسى} يعني: سنعلمك القرآن وينزل عليك فلا تنسى إلا ما شاء الله، يعني: قد شاء الله أن لا تنسى القرآن فلم ينس القرآن بعد نزول هذه الآية.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأخذ في قراءته قبل أن يفرغ جبريل عليه السلام مخافة أن ينساه ويقال: {سنقرئك فَلاَ تنسى} يعني: سنحفظ عليك حتى لا تنسى شيئاً، ويقال إن جبريل عليه السلام كان ينزل عليه في كل زمان ويقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين له ما نسخ فذلك قوله: {إِلاَّ مَا شَاء الله} يعني: إلا ما شاء الله أن يرفعه وينسخه ويذهب من قلبك ثم قال تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى} يعني: يعلم العلانية والسر، ويقال: ما يجهر به الإمام في الفجر والمغرب والعشاء والجمعة {وما يخفى} يعني: في الظهر والعصر والسنن، ويقال: {يَعْلَمْ} ما يظهر من أفعال العباد وأقوالهم {وَمَا يخفى} من أقوالهم وأفعالهم، ويقال: {يَعْلَمْ} ما عمل العباد {وَمَا يخفى} يعني ما لم يعملوه وهم عاملوه ثم قال عز وجل: {وَنُيسركَ لليسرى} يعني: سنهوّن عليك حفظ القرآن وتبليغ الرسالة، ويقال: يعني نعينك على الطاعة، قوله تعالى: {فذكر} يعني: فعِظْ بالقرآن الناس {إِن نَّفَعَتِ الذكرى} يعني: إن نفعتهم العظة ومعناه ما نفعت العظة بالقرآن إلا لمن يخشى ويقال: {إن نفعت الذكرى} يعني إن قولك ودعوتك تنفع لكل قلب عاقل ويقال: {وَنُيسركَ لليسرى} يعني: نهون عليك عمل أهل الجنة ثم قال: {سَيذكر مَن يخشى} يعني: يتعظ بالقرآن من يخشى الله تعالى ويسلم ويقال: معناه سيتعظ ويؤمن ويعمل صالحاً من يخشى قلبه من عذاب الله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا} يعني: يتباعد عنها يعني: عن عظتك {الأشقى} يعني: الشقي الذي وجب في علم الله تعالى أنه يدخل النار مثل الوليد وأبي جهل ومن كان مثل حالهما {الذى يَصْلَى النار الكبرى} يعني: يدخل يوم القيامة {النار الكبرى} يعني: النار العظمى لأن نار الدنيا هي النار الصغرى ونار الآخرة هي {النار الكبرى} وروى يونس عن الحسن عن النبي صلى الله عليهوسلم قال: «إِنَّ نَارَكُم هذه جُزْءٌ مِنْ سَبْعين جُزْءاً مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ وَقَدْ غُمِسْتُ فِي النَّار مَرَتَين لِيُدْنَى مِنْهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا وَلُولاَ ذَلِكَ مَا دَنَوتُم مِنْها» ويقال: إنها تستجير أن ترد إلى جهنم يعني: تتعوذ منها وقال بعض الحكماء: علامة الشقاوة تسع أشياء كثرة الأكل، والشرب، والنوم، والإصرار على الذنب، والغيبة، وقساوة القلب، وكثرة الذنوب، ونسيان الموت، والوقوف بين يدي الملك عز وجل، وهذا هو الشقي الذي يدخل {النار الكبرى} {ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا ولا يحيى} يعني: لا يموت في النار حتى يستريح من عذابها ولا يحيا حياة تنفعه، وقال القتبي معناه: هو العذاب بحال من يموت ولا يموت.
ثم قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} يعني فاز ونجا من هذا العذاب وسعد بالجنة {من تزكى} يعني وحّد الله تعالى وزكى نفسه بالتوحيد {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ} يعني: توحيد ربه {فصلى} مع الإمام الصلوات الخمس، ويقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} يعني: أدى زكاة الفطر {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى} مع الإمام صلاة العيد.
ويقال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} يعني: أدى زكاة المال، يعني نجا من خصومة الفقراء يوم القيامة {وَذَكَرَ اسم رَبّهِ فصلى} يعني: كبّر وصلى لله تعالى، ويقال: {مَن تزكى} يعني: تاب من الذنوب {وذكر اسم ربه} يعني: إذا سمع الآذان خرج إلى الصلاة ثم ذم تارك الجماعة لأجل الاشتغال بالدنيا فقال: {بَلْ تؤثرون الحياة الدنيا} يعني: تختارون عمل الدنيا علي عمل الآخرة، قرأ أبو عمرو: {بَلِ} بالياء على معنى الخبر عنهم والباقون بالتاء على معنى المخاطبة ثم قال عز وجل: {الدنيا والآخرة خَيْرٌ وأبقى} يعني: عمل الآخرة خير وأبقى من اشتغال الدنيا وزينتها، ويقال معناه يختارون عيش الدنيا الفآنية على عيش الآخرة الباقية وإن عيش الآخرة خير وأبقى لأن في عيش الدنيا عيوباً كثيرة خوف المرض والموت والفقر والذل والهوان والزوال والحبس والمنع وما أشبه ذلك وليس في عيش الآخرة شيء من هذه العيوب، لأجل هذا قيل خير من الدنيا قوله تعالى: {إِنَّ هذا لَفِى الصحف الأولى} يعني: الذي ذكر في هذه السورة كان في {الصحف الأولى} يعني: في الكتب الأولى ثم فسره فقال: {صُحُفِ إبراهيم وموسى} ويقال: الذي ذكر في آخر السورة أربع آيات لفي كتب الأولين وكل كتاب مكتوب يسمى الصحف يعني في قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى} إلخ الآية. اهـ.